الدوري المصري

د. هدى ياسين تكتب… لبنان  طموح التماسك ومأزق الصراع الطائفي 

 

كتبت : د. هدى ياسين (الكاتبة والباحثة في علم الاجتماع السياسي)
منذ أن يُخلق الإنسان ووسمة الطائفية على جبينه وتُلاحقه، “بدءاً بالولادة وإنتهاءً بالموت”، وخير دليل على ذلك هو بطاقة الهوية الشخصية للمواطنين، فعبارة المذهب الواردة فيها تحمل رموزاً عديدة بأبعادها الطائفية.
فيما الطائف يؤكد أن المذهب والدين سيُلغى ذكرهما في الهوية الشخصية، إلاّ أنّ النظام الإنتخابي برمّته سيبقى قائماً على التمثيل الطائفي الذي يحتّم ذكر الطائفة على إخراجات القيد، مما يجعل إلغاء ذكره من الهوية دون معنى، ولا دلالة اجتماعية أو سياسية له.
وقد إختلف علماء الإجتماع والسياسة في توصف الطائفية، فالبعض وصفها بأنها شر مطلق، والبعض الآخر وصفها بأنها غدة سرطانية تمزق الوطن، و آخرون نعتوها بأنها لعبة الأذكياء لسيطرة على الأغبياء، ولكن مهما تعددت الآراء في التوصيف والأسباب التي أدت إلى تشّكل هذا الكيان وبنيتة المجتمعية، يبقى الواقع الطائفي حقيقةً راهنة تلقي بثقلها الإيجابي والسلبي على المجتمع اللبناني.
فالتمثيل الطائفي هو أبرز سمات الحياة السياسية في لبنان، والطائفية- السياسية خصوصاً هي نقيض الديمقراطية، بمعنى أنها تعطل المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين. مقابل ما أكده الدستور اللبناني: على أن “لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، ونص في طليعتها على حرية الرأي والمعتقد، و العدالة الإجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات السياسية، والمدنية بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل”. إلا أنه بالمقابل يؤكد: على أن “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”.
فالطائفة، هي إنتظام مؤسسي للجماعة الدينية على الصعيدين السياسي، والأيديولوجي يجعل منها على ذلك الصعيدين موقعاً تمثيلياً مخصوصاً ومتبايناً عن موقع تمثيلي آخر، يعود لإنتظام جماعة دينية مغايرة.
والطائفية، هي الولاء العصبي للطائفة الممارس بأشكال ومظاهر متعددة تصورها ذات لحمة عامة، أو كلاً متجانساً على حساب تراتيبيتها المجتمعية.
أما الطائفية السياسية، فهي نظام تمثيل الطوائف في تركيبة النظام السياسي وفي مؤسسات الدولة.
فالنظام اللبناني في نصوصه وفي ممارسته، هو نظام يأخذ التعدد الطائفي بالإعتبار، وهذا ما فرضه الواقع البشري اللبناني.
ويُعد المجتمع في لبنان من المجتمعات المعقدة لجهة تركيبته الاجتماعية، لأنه مكان إلتقاء وتعايش ثماني عشرة طائفة دينية تنتمي كلها إلى ديانتين كبيرتين هما: المسيحية، والإسلام، وهي طوائف تشَّكل نسيجها المجتمعي مع تعدد في ثقافتها الخاصة، وعاداتها وتقاليدها الدينية، فتضفي عليه سمة التركيب المعقد لا البسيط ضمن بنية طوائفية تمتد لتطاول مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، والسياسية، والتربوية.
فلا يوجد في لبنان قانون موحد للأحوال الشخصية، فلكل طائفة من الطوائف الثماني عشرة قوانينها الخاصة ومحاكمها الروحية والشرعية. علماً، أن نظام الأحوال الشخصية يرتبط بقوانين الزواج، والطلاق، والإرث…
وكذلك البنية التعليمية التربوية هي بنية طائفية أسوةً بسائر بنيات المجتمع، فالتعليم شأن طائفي، ولكل طائفة مدارسها الخاصة بها. وكذلك القيم الدينية والثقافة المتميزة دور العبادة والجامعات، وكذلك المؤسسات والمشاريع الاقتصادية….
ولا ننسى الأحزاب التي، “تؤمن وتمارس القوة السياسية من خلال التصويت الشرعي”، فهذه الأحزاب نوعان: نوع، يرفض الفكرة الطائفية والنظام الطائفي، ونوع، يمثل بحكم الواقع النزعة الطائفية وإن دعا إلى اللاطائفية.
فليست المسألة الطوائفية في لبنان مجرد غطاء أو إنعكاس إيديولوجي لبنية إقتصادية إجتماعية، بل هي تعبير عن بنية مجتمعية شاملة قوامها متحدات إجتماعية هي الطوائف، تتجانس كل منها على أساس رابطة الدين والمذهب، وتتباين في مابينها بتعدد الأديان والمذاهب، نمط هذه العلاقات التي تفرزها هذه البنية نجد ترجمتها، ليس على المستوى الإيديولوجي وحسب، بل أيضاً على صعيد البنيات السياسية، والإجتماعية، والإقتصادية.
والمعضلة في النظام الطائفي اللبناني أنه فشل في إيجاد قواسم مشتركة بين المواطنين، وبالتالي فشل في أن يكون اداة حكم ناجحة. وبات يُنظر من جانب كثيرين إلى هذا النظام على أنه “علة العلل” وفي أساس الفساد والهدر وعدم الكفاءة والزبائنية مع تراكم الأزمات وآخرها إنهيار إقتصادي غير مسبوق.
فلا أمل في بناء دولة عصرية مركزية وقوية في ظل هذا النظام، لان الطوائف تتصرف وكأن مؤسسات الدولة إقطاعات شخصية يحق لها أن توزّعها على محازبيها كما تشاء.
أخيراً، ستبقى لعنة الطائفية تهدد اللبنانيين عند أي خلاف بين طائفة وآخرى، وتبقى هي المحرك واللعبة المحورية لتأجيج الشارع وجمهوره عند أي حدث أو إنتكاسة تصيب المجتمع، ولكن الرهان الأساسي على الوعي والتكيف، والتعايش، والمحبة بين كافة أفراد المجتمع اللبناني يبقى سيد المواقف لتخلص من هذه الآفة الخطيرة…
ويبقى السؤال المطروح، إلى متى سيظل الشعب اللبناني يدفع فاتورة الخلافات السياسية، وتحويلها وإستغلالها إلى مصالح فتنوية ومذهبية؟ لمصلحة وخدمة من هذا النظام الطائفي الطبقات الفقيرة أم أمراء الطوائف؟ وأما آن الآون لتكاثف جميع الطوائف والمذاهب حول القضايا المصيرية والمشاكل والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمالية التي تعصف بنا جميعنا، وتهدد حياتنا اليومية والمعيشية، ومستقبل أبناءنا؟…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
P