الدوري المصري

عبد الناصر الحاضر الغائب

 

على الرغم من مرور 51 عاما على رحيل الزعيم الخالد جمال عبد الناصر إلا أنه لا زال الحاضر الغائب بمبادئه وأهدافه التي كرس لها حياته حتى الرمق الأخير منها لأن الجسد قد يبلى ولكن المبادئ تظل باقية ، وعلى الرغم من الإنجازات العديدة التي حققها عبد الناصر خلال فترة حكمه والتي امتدت على مدار الستة عشر عاما من بناء مصانع ومشروعات لا تزال آثارها باقية حتى الآن وعلى رأسها مشروع السد العالي والذي لولاه لعانت مصر من أخطر عجز مائي بعد شروع أثيوبيا في بناء سد النهضة إلا أن أهم ما ميز عهد عبد الناصر هو اهتمامه بالطبقة الكادحة من العمال والفلاحين الذين يشكلوا السواد الأعظم من الشعب المصري فوزع الأراضي على الفلاحين وقام ببناء قلعة صناعية وعلى رأسها قلعة الحديد والصلب والتي استوعبت آلاف العمال وبنى المستشفيات التي قدمت العلاج المجاني وأقام المدارس التي قدمت التعليم المجاني ووفر المساكن بسعر يتناسب مع أصحاب الدخول المحدودة ، وإذا كان عبد الناصر قد أهتم على المستوى الداخلي بقضايا الطبقة الكادحة فلقد كرس حياته على الصعيد الخارجي بالقضايا العربية يرتبط أمنها بأمن أمتها العربية فساعد حركات التحرر في الجزائر واليمن وغيرها من الدول العربية الأخرى حتى نالت استقلالها كما خاض تجربة الوحدة مع سوريا لايمانه بأن الوحدة العربية هي الطريق الوحيد لمجابهة أطماع الاستعمار ودافع عن قضية فلسطين حتى الرمق الأخير من حياته وكان آخر ما قام به هو وقف الاقتتال الدموي بين الجيش الأردني وقوات المقاومة الفلسطينية حتى فارقت روحه إلى بارئها ، وللأسف أن تلك الإنجازات التي تحققت ودافع عنها تحطمت بعد رحيله وكانت البداية توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد التي أخرجت مصر من حلبة الصراع العربي الإسرائيلي والتي مكنت إسرائيل بعد ذلك من غزو لبنان وساعدت على احتلال العراق في ظل غياب مصر كما مكنت المعاهدة الولايات المتحدة وإسرائيل من الهيمنة الإقتصادية والسياسية على القرار المصري حتى فقدت مصر ريادتها في المنطقة وأصبح دورها يقتصر على الوساطة لتحقيق هدنة بين الفلسطينيين وإسرائيل أو التوسط لتبادل الأسرى بل وصل الأمر أن باركت مصر التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول الخليجية وعلى رأسها الإمارات والمغرب والسودان رغم أن ذلك يشكل تهديدا للأمن القومي المصري وعلى الصعيد الداخلي سيطرت طبقة رجال الأعمال على القرار السياسي والاقتصادي على حساب الطبقة الكادحة وأصبحت قيمة الإنسان فيما يملكه من مال واهدرت أموال الدولة في مشروعات يستفيد منها الطبقة الراقية كالمدينة الإدارية والقطار الكهربائي بدلا من إقامة المصانع التي تشغل الشباب أو إصلاح منظومة النقل بعد تكرار الحوادث التي راح ضحيتها المئات من الأفراد أو إقامة مستشفيات ومنظومة تعليمية يستفيد منها أبناء الفقراء ، وإذا كنا قد دافعنا عن عبد الناصر الزعيم الوطني الذي لم يجود الزمان بمثله فإنه إحقاقا للحق قد ارتكب العديد من الأخطاء والتي ساعدت أعدائه في الداخل والخارج على الانقضاض على منجزاته ، ولعل أهم أخطائه هي فشله في إقامة نظام ديمقراطي سليم يحمي تلك المنجزات ويدافع عنها فالذين صفقوا لعبد الناصر على المنجزات التي حققها هم أنفسهم الذين انقلبوا عليها كما أخطأ عبد الناصر في اختيار الأفراد المحيطين به والذين تسببوا في كوارث حلت بالوطن لا نزال نعاني من آثارها حتى الآن ورغم كل ذلك فسوف يظل عبد الناصر هو الزعيم الحاضر الغائب بأهدافه ومبادئه حتى وإن عظمت أخطائه فالزعيم العظيم عادة ما تكون أخطائه أيضا عظيمة وهذا هو قدر العظماء .

مصطفى عمارة
مدير مكتب جريدة الزمان الدولية بلندن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
P